الأحد، 18 أغسطس 2013

مصر أمام مصير مجهول


إذا كانت الثورة التونسية هي الفتيل الذي أشعل ثورات الربيع العربي، فإن ثورة 25 يونيو هي الموقد الذي ألهبها و بعث فيها الإضطرام، لذلك فإن ما يحدث في مصر سيترك آثاراً على ثورات الربيع العربي كلها، من حيث رؤيتها لنفسها و رؤية العالم لها. 

كما في كل ثورات الربيع العربي، لم يكن الإسلامانيين -و بالتحديد الإخوان المسلمين- هم الطليعة التي قادت ثورة 25 يناير، و لكنهم وصلوا عبرها بالنهاية إلى الحكم، و بعد وصولهم إلى الحكم حاولوا الإستئثار بنتائجها. و الحال أن من قام بالثورة المصرية هم الشباب الذين حملوا بداخلهم الرغبة في أن يعيشوا حياتهم بدون عوائق تعيقهم عن تحقيق ذواتهم، و هذا ما ندعوه في علم النفس بالحرية، و هم أرادوا من خلال هذه الحرية الوصول إلى حياة كريمة، تضمن لهم تأمين حاجيات حياتهم دون مذلة أو هوان.

وصل الأخوان المسلمون إلى السلطة عبر صناديق الإقتراع، مع أنهم لم يكونوا الفاعل الأساس لثورة 25 يناير، و كان هذا نتيجة ثلاثة عوامل. الأول هو أن الشباب و هم النخبة التي قامت بالثورة لم يكن لهم قيادات تمثلهم، يدفعونها للتترشح للإنتخابات، و هذا له أسبابه التي لن أتناولها الآن. و الثاني أن أغلبية الشعب المصري المتدين تديناً بسيطاً و ساذجاً، مال إلى أطروحة أن الشريعة هي الحل. أما السبب الثالث فكان أن الأخوان المسلمين هم المكون السياسي الأكثر تنظيماً في مصر.

عندما وصل الإخوان إلى الحكم في مصر، لم يتعامل رئيسهم مرسي مع المصريين بوطنية، فلم يكن همه شفاء جروح الوطن، بقدر ما كان همه خدمة فصيله السياسي و الإستئثار بالسلطة، و تحقيق الأجندا الضيقة لهذا الفصيل، هكذا لم ينفتح على بقية المكونات السياسية و المدنية في المجتمع المصري، و بدل أن يكون هذا الإنفتاح هو المرجعية التي تقوده، إعتمد على مرجعية أخرى لم يخترها الشعب و لم يصرح عنها أثناء حملته الإنتخابية، و كان رمز هذه المرجعية هو المرشد العام للإخوان المسلمين. ثم أنه فور إستحواذه على السلطة عادى مؤسستي القضاء و الجيش. هكذا لم يكن مرسي رئيساً لكل المصريين، بل رئيساً على المصريين ليحقق الأهداف الضيقة لفصيله السياسي.

إنتفض الشعب مرة أخرى في 30 
يونيو، من خلال حركة شبابية هي حركة "تمرد"، لم يفهم مرسي الرسالة، فتعنت. إستغل الجيش الفرصة فقام بإنقلاب عسكري، ووضع جهاز حكم لم يختره الشعب، و لا هو يمثل الشعب، و ليس لديه أي مشروع للخروج من الأزمة الراهنة. هكذا دخلت مصر بأزمة سياسية، تفتقد للآن لبوادر الحل، و للأسف هي في طريقها لأن تكون أزمة مجتمعية و أهلية.

الاثنين، 24 سبتمبر 2012

هل حسم المسيحيون أمرهم مع النظام؟!

بعد أن تشابكت الأسبوع الفائت في حي الجديدة في حلب مجموعة من الجيش الحر مع مجموعةٍ من اللجان الشعبية المكونة من عناصر يدينون بالديانة المسيحية، كتب لي صحفي من جريدة الشرق الأوسط يسألني: “هل حسم المسيحيون أمرهم مع النظام؟”، فكان جوابي على النحو التالي:

المسيحيون ليسوا كتلة سياسية واحدة، و لم يكونوا عبر تاريخهم كتلة سياسية واحدة، على الأقل منذ سقوط القسطنطينية في الشرق، و بروز عصر التنوير في الغرب .لهذا إن القول أن المسيحيين حسموا أمرهم مع النظام منافي للواقع. فالمسيحيون اتخذوا مواقف متباينة من الحراك الثوري منذ البداية -كما فعلت بقية الطوائف- فبينما كانت أغلبية المسيحيين غير راضية على النظام (بحسب تقديري أكثر من 90% من المسيحيين(،فإن موقف هؤلاء السلبي من النظام، لم ينعكس إلى موقف إيجابي من الثورة. إذ كان منذ البدء هناك مسيحيون، و مازالوا، مع الثورة و ضد النظام قلباً و قالباً و أغلب هؤلاء من المثقفين (بحسب تقديري 30% من المسيحيين). و مسيحيون آخرون كانوا يميلون للثورة و لكن يبحثون عن بديل في المعارضة قادر على الحكم ليُظهروا تأييداً واضحاً لها  (بحسب تقدير 35% من المسيحيين).  و فئة ثالثة ممن هم ليسوا مع النظام و لكنهم ليسوا مع الثورة لأنهم كانوا يتوجسون من الاسلام السياسي (بحسب تقديري 25% من المسيحيين) و أغلب هؤلاء يقطنون القرى أو من مسيحيي المدن و لكن ينتمون لطوائف  تشكل أقلية بين المسيحيين السوريين كالأرمن و الموارنة، إلا أن هذه الفئة الأخيرة لم تعادي الثورة إلا مؤخراً. أما العشرة بالمئة الباقية فهي تؤيد النظام لأن مصالحها تتقاطع معه.

منذ البداية عمل النظام على اظهار الثورة على أنها طائفية، و أن الذين يقومون بها سلفيون و مسلحون، مع أن الثورة لم  تكن طائفية، و لم يقم بها لا المسلحون و لا السلفيون. و لكن النظام نجح في تحويل جزء من الثورة إلى طائفي، و جذب السلفيين لها، و صار من أبطالها مسلحون، و للأسف تم كل ذلك بمساعدة بعض أطراف المعارضة. و كان هدفه من هذا التحويل  تبرير حله الأمني، و تقليب الأقليات على الثورة، و أيضاً تقليب الرأي العام العالمي عليها.

بالاضافة لهذا استخدم النظام منذ البداية اسلوب التجييش الطائفي. ففي البداية عندما انتفضت بانياس و جبلة، سلح النظام العلويين و المسيحيين في الساحل محذراً إياهم من العصابات الاسلامية المسلحة، مع أنه لم يكن هناك عصابات مسلحة في ذلك الحين ، ثم عندما خف الحراك في هاتين المدينتين، سحب الأسلحة من المسيحيين فقط. في حمص سلح النظام العلويين في وضح النهار، و على مرأى باقي السكان الذين أغلبهم من السُنة. أما في دمشق و في أوائل الحراك فكان يسلح تجار المصنوعات الشرقيين، و أغلبهم من المسيحيين،  بالعصي، و يقول لهم أن العصابات السلفية آتية ،مع أنه لم يكن هناك لا عصابات و لا سلفيون في دمشق في ذلك الوقت. هكذا استطاع النظام زرع أو تضخيم الريبة و الشك في قلوب أبناء الطوائف المتفرقة.

و لكن مع ازدياد تسلح الثورة، و اجتياح المد السلفي لجزء منها. صدق جزء من الأقليات، الشكوك التي زرعها فيهم النظام، فمثلاً  مجموعة المسيحيين التي لم تكن مع النظام و لا مع الثورة و كانت تتوجس الإسلام السياسي ،و التي قدرتها ب 25% من المسيحيين، أصبحت مع النظام و ضد الثورة. و الفئة الأخرى التي كانت تميل إلى الثورة، و التي قدرتها ب 35% من المسيحيين،  أصبحت تعبر عن استيائها من تسلح الثورة، و ذلك دون أن تصبح مؤيدة للنظام.

و الحال أن النظام عمد إلى دفع الثورة للتسلح ليس فقط لينزع عنها التأييد المحلي و العالمي، بل أيضاً ليستطيع اخمادها. فهو لا يعرف كيف يتعامل مع التظاهرات السلمية، و لكنه ظن أنه يستطيع اخماد الثورة إذا حولها إلى تمرد مسلح، كما أخمد تمرد حماة عام 1982. و لكن ما أخطأ في حسابه النظام أن التمرد المسلح هذه المرة واسع النطاق و له حاضنة شعبية، أي هو ثورة شعبية فيها وجه مسلح. هكذا لم يقدر النظام على قمع “التمرد المسلح”، و تحولت الحرب إلى حرب استنزاف تستهلك النظام و جيشه، و لكنها أيضاً تستنفذ الشعب و ترعبه. عندها عمد النظام إلى تشكيل اللجان الشعبية، و من الطبيعي أن تكون هذه اللجان من المسيحيين في المناطق ذات الغالبية المسيحية. و وجد النظام ضالته في الشباب الذين ينتمون للفئة التي قدرتها ب 25% من المسيحيين، و التي لم تكن مع النظام و لا مع الثورة و كانت تتوجس الإسلام السياسي، و لكنها أصبحت لاحقاً مع النظام و ضد الثورة، و أغلب هؤلاء ذوي مستويات معيشية ليست بعالية.

إذاً هل نستطيع أن نقول أن المسيحيين أصبحوا مع النظام، و الجواب “لا”،  إنما النظام نجح بدفع جزء قليل من المسيحيين ليخافوا من الثورة، و يعادونها، و سلحهم بحجة الدفاع عن أنفسهم من خطر بعضه أصبح حقيقياً، و كثير منه ما مازال وهماً.

الجمعة، 21 سبتمبر 2012

قصة نشوء الجيش السوري الحر



يشكل نشوء الجيش الحر و تطوره ظاهرة مهمة في الثورة السورية يجب دراستها بعناية، ليس فقط لأنه العنصر الأكثر إشكالية فيها، بل أيضاً لأنه أصبح أبرز وجوهها، و على الأرجح فإنه سيكون واحد من العوامل التي ستقرر نجاحها، و ترسم مصير سوريا.
كان نشوء الجيش الحر تطوراً طبيعياً و مفهوماً من الناحية العلمية التاريخية في مسيرة الثورة السورية، إذ تتسم الثورات الشعبية إجمالاً بالفوضى و العنف و لكن تختلف عن بعضها البعض في درجة هذه الفوضى و العنف. و الحق، إن درجة العنف هذه تتعلق بعدة عوامل و لكن أهمها على الإطلاق هو عنف السلطة. هكذا فالثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا عام 1989 و التي دامت ستة أسابيع و مارست فيها السلطة عنفاً محدوداً (إستخدام هروات فقط) أدت إلى وفاة متظاهر و احد فقط، بينما الإنتفاضة المصرية التي دامت ثلاثة أسابيع وتميزت بوحشية رجال الشرطة -حيث إستخدموا في بعض الأحيان الرصاص الحي-  فإنها إنتهت بمقتل 846 شخصاً من المدنيين و أيضاً 26 شخصاً من الشرطة. أما الثورة الأمريكية و التي إبتدأت كثورة سلمية و لكن حكومة صاحب الجلالة إستخدمت الجيش لقمعها إنتهت على شكل حرب أهلية دامت ثماني سنوات مات خلالها 25000 إنسان. لهذا يتساءل بعض الباحثين إذا كان هناك حقاً ثورة لاعنفية بالمعنى المطلق، و الإجابة لا، و إنما درجة العنف المستخدم هي التي تحدد فيما إذا كان يصح أن نطلق عليها عنفية أو لا عنفية 
.
لاشك أن الثورة السورية الحالية تشبه الثورة الأمريكية على نحو ما، فقد ابتدأت تمرداً محدوداً في درعا، ثم تحولت إلى ثورة لما أنكر النظام مشروعية مطالب الشعب و رد عليها بالوعيد و التهديد، فارتفع سقف مطالب الشعب إلى إسقاط النظام، و إتسعت رقعة الإحتجاج، عندئذ تحولت الإنتفاضة إلى ثورة شعبية. ثم لما اشتدت القمع العسكري على الثورة، شكل الشعب تنظيماته المسلحة كرد طبيعي على هذا القمع.

في العاشر من حزيران عام 2011، و أثناء حصار جسر الشغور، انشق العقيد حسين هرموش مع 150 جندي من جنوده أثناء حصار جسر الشغور، و فروا إلى تركيا، وشكل ما أسماه لواء الضباط الأحرار. و في التصريح الذي أعلن فيه انشقاقه، صرح أن غايتهم ستكون حماية المتظاهرين السلميين، و توجه إلى من وصفهم بالمضللين من قبل النظام قائلاً: "إن الشعب السوري سيغفر لكم، و لكن إذا لم تنضموا إلينا، فإنكم و طاغيتكم بشار ستحاكمون محاكمات عادلة".

في ٢٩ تموز ٢٠١١ و بعد فراره إلى تركيا شكل العقيد رياض الأسعد ما أسماه بالجيش السوري الحر مع ستة من الضباط المنشقين الذين فروا معه، و  أربعة من الذين بقوا في الداخل حسب ما ادعى. و أوضح أن دواعي تشكيل هذا الجيش نبعت من واجبهم الوطني ووفائهم للشعب لحمايته ووقف من النظام السوري القاتل، ثم أردف أنهم سيعملون سوية مع الشعب لتحقيق الحرية و الكرامة و اسقاط النظام، و ليحموا الثورة و موارد البلد.

أما في الداخل السوري فقد تشكلت أول كتيبة من كتائب الجيش الحر في الرستن. تشكلت هذه الكتيبة من منشقين عن الجيش إنضم إليهم العديد من المدنيين من أبناء المدينة، و الجدير بالذكر أن هؤلاء المنشقين هم من أبناء مدينة الرستن عينها و أغلبهم عاين حوادث درعا و بناء عليه قرروا الإنشقاق، فجلسوا مختبئين في مدينتهم، و لكن لما اشتدت إعتداءات الشبيحة و أجهزة الأمن على أهلهم، و أخذوا بالدفاع عنهم، و لما أتى الجيش ليحاصر مدينتهم، حاربوه، و في هذ الأثناء انضم لهم عدد من المدنيين فشكلوا ما يسمى كتيبة خالد بن الوليد.
في هذه الأثناء أخذ عدد المنشقين يتزايد في مختلف المدن، و أخذت دعوات التسليح لمواجهة الآلة القمعية للنظام تظهر من قبل بعض أطراف المعارضة -كمحمد رحال و لؤي الزعبي- ثم بدأت تنتشر دعوات التسليح على صفحات الفيسبوك، حتى صفحات التنسيقيات الإفتراضية -كتنسيقية القصاع و باب توما- لم تخلو من هذه الدعوات. هكذا تكاثر عدد الشبان الراغبين بحمل السلاح، و لما كان أغلب هؤلاء ليس لهم خبرات عسكرية ذات دلالة و لا يمتلكون الأسلحة التفوا حول المنشقين و هكذا بدأت تتشكل وحدات مسلحة في الداخل، أطلق أغلبها على نفسه اسم الجيش السوري الحر، مع أن اللبنات الأولى التي شكلت ما يسمى بالجيش الحر كانت من الضباط المنشقين، فإن هؤلاء يشكلون الآن قلة قليلة منه. فأغلب أعضائه الآن هم من المدنيين، الذين انضموا له لاحقاً. و يشكل هؤلاء الأخيرون تقريباً 80%-90% من عناصر الجيش الحر. و الحال إن هؤلاء المدنيين هم  من الأبناء المحليين للمناطق المتواجدين فيها ، و هم من طبقات مختلفة في المجتمع، فبعضهم أطباء و مهندسين و بعضهم طلاب جامعات و آخرون من مهن مختلفة أخرى، و هم مقتنعون كلياً بالسبب الذي من أجله حملوا السلاح و هو حماية أهلهم من الأمن و الشبيحة من التفتيش و الإعتقال التعسفيين، و أيضاً حماية المظاهرات السلمية. هذا لا يعني أن بعضهم لا يتصرف بتصرفات غير مسؤولة أو طائشة.

هكذا تكاثرت وحدات الجيش الحر إلى أكثر من أربعين وحدة ، ذات مرجعيات سياسية و فكرية متنوعة، و غالبيتها ليس له ارتباط ببعضها البعض، إذ ليس لها هيكلية تنظيمية واحدة و لا تراتبية واحدة. طبعاً هذا التطور  كان طبيعياً و مفهوماً من الناحية العلمية التاريخية، و ذلك للأسباب التالية:
•                    عنف النظام المفرط.
•                    إستخدام النظام لعصابات الشبيحة.
•                    تسليح النظام للمدنيين الموالين له.
•                    غياب المناطق الآمنة التي يمكن أن يلجأ لها المنشقون.
•                    غياب القيادة السياسية الموجهة للثورة.
•                    غياب الحل السياسي للأزمة السورية، بما فيها عجز المجتمع الدولي عن تبني سياسة واضحة تجاه القضية السورية.

إذاً لم يكن نشوء الجيش الحر إلا ظاهرة طبيعية في تطور الثورة السورية، تفاعل في صيرورته و تشكله مع العوامل آنفة الذكر. و على الرغم من تفتت وحداته، فإنه سيكون عاملاً مهماً في حسم المعركة مع النظام ،مع أن هذا التفتت سيشكل صعوبة جدية أمام تشكيله لجيش وطني واحد في المستقبل.

الاثنين، 10 سبتمبر 2012

موقف لا كما يريده أغلب السوريين

رتب صديق لي اتصالاً بيني و بين شخص أمريكي ذي أصول سورية، وكان هذا الترتيب بناءً على طلب الشخص الأمريكي-السوري، إذ إن هذا الأخير يريد أن يفتح قنوات تواصل مع المنبر الديمقراطي السوري، ووقع الخيار علي من باقي شخصيات المنبر لأنني أعيش في الشمال الأمريكي، و أعرف عاداته و تقاليده. هكذا جرت محادثة بيني و بين هذا الشخص استمرت أكثر من ساعتين، تكلم فيها هو 90% من الوقت، و كنت في معظمها مستمعاً جيداً بلا مقاطعة.

ابتدأ محدثي بوصف مسيرة العلاقة بين الإدارة الأمريكية و المعارضة السورية منذ بدء الثورة السورية. فتكلم أولاً عن اللقاء الذي جمع عدد من الناشطين السوريين - و من بينهم رضوان زيادة و مرح بقاعي و محمد العبدالله- مع وزيرة الخارجية الأمريكية في أوائل شهر آب من السنة الماضية، و الذي دام دقائق، و أحست كلنتون في نهايته -بحسب محدثي- أنه حديث طرشان، و خرجت بانطباعاً بأن هؤلاء ليسوا إلا سذج سياسياً كل همهم التخلص من النظام السوري بأي ثمن عن طريق توريط الولايات المتحدة فيه دون حسبانٍ للعواقب حتى لو كانت تفتيت البلد. هكذا نفضت الإدارة الأمريكية يديها من المعارضين السوريين المقيمين على أرضها، و توجهت إلى فتح قناة اتصال مع مع الأكاديمي الليبرالي المعارض الدكتور برهان غليون، و لكن استجابة هذا الأكاديمي الساكن في مدينة النور للرسائل الأمريكية لم تكن بالمشجعة، و كان هذا مفاجئاً للإدارة الأمريكية. ثم ازدادت مفاجأة الأمريكيين عندما قبل الدكتور برهان بترأس مجلسٍ يشكل الإسلامانيون فيه أكثر من 60% من الأعضاء.

مع ذلك أعطت الإدارة الأمريكية -أيضاً بحسب محدثي- الفرصة للمجلس الوطني السوري، و لكن فشل المجلس بتنظيم ذاته و انعدام الشفافية في عمله و صراعاته الداخلية و عدم فهمه لطبيعة العلاقات الدولية جعله يفقد رصيده الدولي و خصوصاً لدى الإدارة الأمريكية، و إنتهى الأمر بوصف مسؤول أمريكي لأعضائه بأنهم "يتقاتلون اكثر مما يعملون ولا ينجزون اي شيء".

عندها سألت محاوري عن رؤية الإدارة الأمريكية لآلية حل القضية السورية، فأجاب أن هناك تيارين يتنازعان على كيفية التعامل مع الملف السوري. التيار الأول هو تيار مستشاري وزارة الخارجية الآتون من مراكز الدراسات اليمينية النزعة كمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، و هؤلاء يدفعون من أجل عمل عسكري في سوريا، بهدف نزع كل وجود روسي و إيراني في سوريا. أما التيار الثاني، فهو تيار الرئيس و مستشاريه ووزيرة الخارجية نفسها، وهؤلاء يرغبون بحل سياسي للقضية السورية، و ذلك بسبب خشيتهم من تفكك سوريا، واضعين نصب أعينهم ما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي له. 

 ثم أردف أنه من مناصري التيار الثاني، و يعتقد أنه لو وضعت الإدارة الأمريكية كل ثقلها في الملف السوري لدفعت نظام الأسد للرحيل بدون عمل عسكري. و هنا سألت محدثي متعجباً "إذاً ماذا تنتظر الإدارة الأمريكية ؟!" أجاب محدثي إن الإدارة الأمريكية تخشى الفوضى، و هي تنتظر المعارضة السورية لتقوم بالواجب الذي يقع على عاتقها. هنا قاطعته، وسألته مستغرباً "و ما هو هذا الواجب؟!"، فأجاب:
أولاً، وضع تصور للمرحلة الانتقالية أوسع مما قدم في مؤتمر القاهرة، بما فيها تصوراً عن الهيئات التنفيذية و التشريعية و القضائية الضرورية في كل مرحلة من مراحل الانتقال نحو الدولة الديمقراطية المنشودة، و أيضاً وضع تصورات من أجل إحلال الأمن و المصالحة الوطنية و إعادة البناء بعد رحيل النظام.
و ثانياً، تشكيل حاضنة سياسية مقبولة شعبياً و لديها الكفاءة لتأخذ على عاتقها هذا المشروع. لهذا فإن هذه الحاضنة يجب أن تمثل جيداً مكونات الشعب السوري، و التي تشكل المعارضة المنظمة ( بما فيها المجلس الوطني و هيئة التنسيق) فقط 30% منها. ال 70% الباقية هي بقية فئات الشعب السوري من ضباط الجيش الحر و ضباط الجيش النظامي الغير متورطين بجرائم النظام و شباب و سوريين معارضين مستقلين، و برأي بعض الشخصيات الأمريكية فإن هؤلاء الأخيرون هم الأقدر على قيادة المرحلة الانتقالية لأن فيهم طاقات جيدة لم تفسد كما فسدت المعارضة المنظمة من جراء لهاثها وراء السلطة و المال.

عندها عقبت قائلاً: "و هل يعقل أن تترك الولايات الأمريكية الوضع في سوريا يتدهور على هذا النحو --مع أكثر من مئة قتيل و دمار كبير كل يوم- و هي تنتظر معارضة عقيمة؟!" فرد محدثي قائلاً: "الإدارة الأمريكية مستعدة للمساعدة على ترحيل الأسد، و لكنها لا تريد أن ترث فوضى شبيهة بتلك التي شهدتها في العراق بعد رحيل صدام، و هي واثقة أنه لدى السوريون الإمكانية لتجنب هذه الفوضى لو امتلكوا تمثيلاً سياسياً جاداً يضع كل طاقاته و طاقات الشعب في خدمة هذا الهدف، و هي تريد من السوريين أنفسهم أن يجدوا هذا التمثيل". فقلت لمحدثي: "هل يمكنني أصف هذا التنصل الأمريكي باللاموقف؟!" فقال لي: "يمكنك إذا شئت! و لكنني أنا شخصياً أصفه بأنه موقف لا كما يريده أغلب السوريين."

و هنا تساءلت في نفسي: " إذاً، ماذا يريد هذا الشخص من المنبر الديمقراطي السوري؟!"

عوائق نجاح مؤتمرات المعارضة السورية

بتاريخ 4 أيار من هذه السنة و قبل اجتماع المعارضة الذي كان مزمعاً عقده في مقر الجامعة العربية في منتصف أيار كتبت إلى بعض أعضاء اللجنة السياسية في المنبر الديمقراطي السوري قائلاً:

السادة الأعضاء:

إنني أخشى أن ينتهي اجتماع القاهرة بالفشل كما انتهت سابقاته. إذ لا أعرف ما يجري من تحضيرات لهذا الغرض، فلانجاح أي مؤتمر للمعارضة السورية يلزم الكثير من التحضير، و هذه التحضيرات يجب أن تتم على صعيد الأشخاص أولاً.

القضية السورية معقدة من الناحية الموضوعية لأسباب كلنا نعرفها، و لكن ما يجعلها شديدة المناعة لأي حل هو العوامل الشخصية، إن كان على صعيد شخصيات المعارضة ذاتها أو صعيد اللاعبين العالميين. و الحال أن انعدام الثقة بين شخصيات المعارضة كان العامل الأكبر في نشوء عدم الثقة بين اللاعبين الدوليين. فهناك نقص الفهم المتبادل و التفهم، و هناك نقص الثقة و الشك و الريبة، كل هذه عوامل مهمة لأنها تؤثر سلباً على المعارضة و الثورة و موقف المجتمع الدولي من هذه الثورة، و لكن للأسف لم يصرف أي أحد أي جهد لازالة هذه العوائق، بل بالأحرى كثيرون يعملون على تثبيتها و تقويتها عن قصد أو غير قصد.

إنني شخصياً أعتبر أن حل هذه المعضلة هو البداية لتنظيم أمور المعارضة و التي من غيرها لن ينجح أي مؤتمر للمعارضة. لقد أدركت ذلك مبكراً -منذ الأشهر الأولى للثورة- من خلال خبرتي مع المعارضين في الشمال الأمريكي، فكلما كنت أحدثهم عن ضرورة التقارب مع الدكتور برهان غليون لأنهم يشكل لهم مفتاح اليسار و الداخل السوريين، كانوا يتهربون -ليس فقط من التحدث مع الدكتور برهان، بل أيضا مني- و يلجؤون لعقد إجتماعات يجتمع بها كل من هب و دب، و نعرف كيف إنتهت الأمور، أخذوا - مع أصدقائهم- الأستاذ برهان من اليسار و الداخل، و لم يتقربوا لا من اليسار و لا من الداخل، بل جعلوا الإستاذ برهان حجر عثرة أمام هذا التقارب. لهذا كنت قد كتبت -بشكل غير مباشر- للأستاذ برهان عن موضوع الشك و الريبة بين مختلف شخصيات المعارضة في شهر تموز الماضي. و لكنه لم يفهم علي في ذلك الوقت، فأجابني بما هو معناه "ما هذا الكلام؟!"، و للأسف هو الآن أدخل نفسه في لعبة الشك و الريبة هذه، لا بل أصبح عاملاً أساسياً فيها. أضع لكم رابطي النص الذي كتبته له في شهر تموز الماضي بالفرنسية و الإنكليزية، إذ إنني كتبته بالأصل بالفرنسية، ثم ترجمته للإنكليزية.
http://haytham-khoury.blogspot.ca/2011/07/lopposition-syrienne-de-labsurdite-au.html
http://haytham-khoury2.blogspot.ca/2011/07/syrian-opposition-from-absurdity-to.html

مازلت أعتقد أن العامل الشخصي و النفسي هو عائق مهم لتجتمع المعارضة حول مشروع واحد و فكر واحد، و هو أيضاً منبع لتعقيد القضية السورية على الصعيدين العربي و الدولي، إذ نقلت أطراف المعارضة هذه الشكوك إلى حلفائهم الإقليميين و العالميين.

النقطة الثانية التي ستقف عائقاً أمام نجاح مؤتمر القاهرة ستكون "اعتبار المجلس لنفسه أنه الممثل الشرعي و الوحيد للشعب السوري". بحسب زعم المجلس فإنه سعى إلى هذه الصفة لينزع الشرعية الدولية عن نظام الأسد، و هو لجأ إلى ذلك مستحضراً النموذج الليبي، على أمل أن يؤدي ذلك إلى التدخل العسكري الغربي في سوريا. و لكن ما غفل عنه المجلس أن الغرب لا يتدخل وفق أي أجندة غير أجندته، و هو ينزع الشرعية عمن يشاء في الوقت الذي يشاء، و يتدخل في الوقت الذي يشاء. هكذا مانع الغرب طلب المجلس في البداية لعلمه و قناعته أن النتائج العكسية لذلك هي أكثر من فوائده، و لكن تحت الحاح المجلس أعطاه لقب "ممثلاً شرعياً" للشعب السوري و ليس "الممثل الشرعي". المشكلة هي أن طلب المجلس هذا أبعده أكثر فأكثر عن الشعب السوري الذي كان يرغب أن يحافظ المجلس على الشرعية الشعبية التي أعطاه إياها في شهر تشرين أول الماضي، لا أن يصبح السعي للشرعية الدولية هاجسه الوحيد. أيضاً أيضاً خلق سعي المجلس هذا مزيداَ من الشك بين المجلس و بقية شخصيات و فصائل المعارضة التي رأت أنه موجه ضدها، و هي محقة عملياً في ذلك، و ربما فعل المجلس ذلك عن قصد أو عن غير قصد. هكذا إنتهى المجلس مع ادعاء لا يوافق واقعه، أبو بالأحرى مع كذبة صدقها هو أولاً و يريد لكل المعارضة و كل المجتمع الدولي أن يصدقوها. و لكن المشكلة الأكبر هي أن هذه الكذبة أصبحت تشكل عائقاً أمام التقاء المجلس مع بقية فرق المعارضة و الجلوس معها على طاولة واحدة و التنسيق معها، مما إنعكس سلباً على الواقع السياسي و الميداني للثورة.

النقطة الثالثة التي ستقف عائقاً أمام اجتماع القاهرة هي عدم ادراك بعض فصائل المعارضة لعلاقة الأخلاق بالسياسة. أرسطو في كتابه "السياسة" ركز أن السياسة يجب أن تكون أخلاقية في غاياتها و وسائلها، و لكن اليونان فرقوا بين نوعين من أنواع الأخلاق، الأول (Morality) و الثاني (Ethics)، فبينما يقوم الأول على تحديد ما هو مسموح و ما هو ممنوع، أي بين ما هو مقدس و ما هو رجس، فإن الثاني يضع أن الغاية من أي فعل إنساني هي خير الإنسان عينه، و يجب أن يتعامل الإنسان مع ظروف الحياة المتغيرة من هذا المنطلق. لا شك أن الطريق الأول للأخلاق سهل في ظاهره، و لكنه بالحقيقة مخيب في نتائجه، أما الطريق الثاني فهو صعب في آليته، و لكن يأتي بأفضل النتائج الممكنة. و لكن إذا ما حاولنا أن ننظر إلى فصائل المعارضة السورية و أي المناهج الأخلاقية تتبع، لوجدنا أن "هيئة التنسيق" بجمودها في لاءاتها الثلاث و أيضاً "تيار بناء الدولة" برفضه التوقيع على بيان البحر الميت يتبعان النظرة الأولى في الأخلاق، بينما يتبع المجلس الوطني عموماً النظرة الثانية و لكن وفق نظرة قاصرة تهمل تعقد الواقع، و تتغاضى عن أخلاقية الوسائل في بعض الأوقات، هكذا تبتعد أفعاله عن الأخلاق في بعض الأحيان. إن هذا الخلاف في المنظور للأخلاق السياسية يقف عائقاً أمام تبني المعارضة لإستراتيجية واحدة لاسقاط النظام، و بالتالي يؤخر هذا الاسقاط و تمنع الإبتداء بالإتفاق على صورة سوريا الجديدة.و الأخطر من هذا أنه بدلاً من أن يتفهم كل طرف طريقة تفكير الطرف الآخر، فإن كل طرف يعير الطرف الآخر على طريقة تفكيره، و يزاود عليه في الوطنية.

هكذا ستقف أمام اتفاق المعارضة على رؤية واحدة لاسقاط النظام عوائق متعددة بعضها شخصية و أخرى عملية و ثالثة فكرية. إن ادراك فصائل المعارضة لهذه العوائق و رغبتها الجادة للتخفيف من نتائجها هي السبيل الوحيد لانجاح أي مؤتمر من مؤتمرات المعارضة.

هنا انتهت رسالتي، و كان معي حق فيها، فاجتماع القاهرة ذاك فشل قبل انعقاده، إذ إعتذرت عن حضوره عدة فصائل من المعارضة لأسباب من النوع الشخصي التي ذكرت في رسالتي تلك. في المحاولة المطروحة هذا الشهر للم شمل المعارضة السورية حول رؤية واحدة، إرتأت اللجنة المنظمة هذه المرة أن تعقد اجتماعاً تمهيدياً غير رسمي اليوم في استنبول أولاً، قبل عقد الرسمي في القاهرة آخر الشهر. لا شك أن هذا حسن، لربما سمح هذا الاجتماع التمهيدي الاستشاري غير الرسمي بخلق جو من الثقة بين أطراف المعارضة دون أن يكون هناك ضغط للوصول لاتفاق نهائي، و لربما أيضاً فتح الباب أمام فصائل المعارضة لمزيد من المشاورات قبل عقد الاجتماع الرسمي في القاهرة بعد اسبوعين.

مقاربة تاريخية لمشاعر الإضطهاد السريانية




كتب صديقي الأستاذ سليمان يوسف على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي يقول: " من طبائع وسلوكيات الحكم الاستعماري سعيه الدائم الى محو ثقافة وحضارة وطمس تاريخ سكان البلد الواقع تحت الاحتلال (اصحاب الأرض). ليظهر المحتل وكأنه هو أول من سكن هذه الأرض وصاحبها. حقيقة هذا ما فعله العرب المسلمين مع السكان الأوائل لسوريا وبلاد الشام والعراق-السريان الآشوريين والآراميين- منذ غزوهم وحكمهم لها. فمن يقرأ كتب ومناهج التاريخ التي تعلم في المدارس السورية، حيث هناك تغييب وطمس تام للتاريخ والثقافة والحضارة السريانية (الآشورية)، تتكون لديه فكرة بأن تاريخ سوريا والمنطقة لم يبدأ إلا مع العرب المسلمين، في حين أن هم آخر من جاء الى المنطقة.من هنا أقول:بأن الحكم العربي الاسلامي لسوريا ليس بحكم وطني سوري وإنما هو "حكم استعماري" وسوريا هي اشبه بـ"مستعمرة عربية".

و لكنني لما وجدت في هذا القول تجنٍ على العرب المسلمين، أخذت على عاتقي مهمة الرد عليه، فكتبت:

صديقي العزيز:

التاريخ في حركة دائمة، و هناك حضارات تزدهر و أخرى تذبل. أما التي تزدهر، فتفعل ذلك عبر قوتها الثقافية و الإقتصادية فتفرض نفسها على سيرورة التاريخ، و يتبعها الآخرون و يتقلدون بها. و أما التي تذبل، فإنها تضمحل إما لأنها لم تُجارِ عصرها بعلمه و ثقافته أو لأنها سُحقت تحت قوة السلاح بفعل القمع و الإضطهاد. هكذا يفرض الأقوياء مآلات التاريخ بهذه القوة أو تلك.

إستوطن الأراميون الداخل السوري بعد هجرة طبيعية من الجنوب إلى الشمال، فإستقروا هناك من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، و بنوا حضارة هامة كان لها تأثير كبير على محيطها، هكذا أصبحت اللغة و الثقافة الآراميتين هي الطاغية في الهلال الخصيب لأكثر من ألفية خلت، فأضحت اللغة التي تتكلم بها شعوب ذات تاريخ عريق كالشعب البابلي-الأشوري و الشعب الأكادي و طبعاً بالإضافة للشعب الآرامي، و إستمر هذا النفوذ حتى مجئ الهلينيون في القرن الرابع قبل الميلاد.

عندما إحتل الهلينيون سوريا (عام 334 ق.م) فرضوا هيمنتهم الثقافية على حساب الثقافة الآرامية، فأصبحت اليونانية شائعة في المدن كلغة للعلم و الإقتصاد، بينما بقيت الآرامية -أو السريانية كما أطلق عليها الهلينيون أنفسهم- شائعة في الأرياف. ثم جاء الرومان (عام 64 ق.م) فطوعوا سوريا بالسيف، و عمموا اللغة و الثقافة اليونانيتين، و إعتبروا كل من هو غير روماني مواطناً من الدرجة الثانية. في بداية الحكم الروماني لسوريا، إضطهد الرومانُ المسيحيين -و من بينهم السريان- فذبحوا منهم الكثيرين، إلى أن جعل قسطنطين المسيحية ديانة قانونية عام 313 م، و من ثمّ أصبحت الدين الرسمي للدولة الرومانية عام 380 م. و لكن في عام 451 م و على إثر مجمع خلقدونية، إعتبر الرومانُ المسيحيون المسيحيين السريانَ هراطقة فأضطهدوهم و قتلوا الكثيرون منهم إلى أن جاء العرب.

إستولى العرب على العراق و سوريا عام 636م بناء على رغبة نبيهم لتحرير العرب المسيحيين -المناذرة و الغساسنة- من حكمي الفرس و الروم على التوالي، و لهذا أسموه فتحاً. و نبعت رغبة التحرير هذه من علاقات النبي الجيدة التي أقامها مع العرب المسيحيين هؤلاء أثناء عمله في التجارة، و يجب ألا ننسى في هذا المجال تأثير الراهب بحيرة عليه.
عندما فتح العرب سوريا و العراق، عاملوا سكان هذه البلدان بشكل حسن، و مع أن المعاملة إختلفت بحسب الخليفة، لكنها ظلت نسبياً جيدة في كل الأحوال. كان للمسيحيين بشكل عام مكانة جيدة أثناء الحكمين الأموي و العباسي. هكذا كان وزراء الخزانة و الديوان أثناء الحكم الأموي دائماً من المسيحيين- كمنصور بن سرجون المعروف بالقديس يوحنا الدمشقي في الكنيسة الرومية- فشكل المسيحيون عماد النهضة الإدارية للدولة الأموي. و عندما أراد العباسيون إطلاق النهضة العلمية في دولتهم لجؤوا إلى المسيحيين السريان لترجمة التراث اليوناني، و كان من بين هؤلاء المترجمين ثابت بن قرة و حنين بن اسحق، و كان المأمون قد عين هذا الأخير مسؤولاً عن بيت الحكمة و دار الترجمة، و كان يدفع له ذهباَ بوزن الكتب التي يترجم.

خلال العهدين الأموي و العباسي لم يُجبر المسيحيون على ترك دينهم، هكذا بقيت نسبة المسيحيين في سوريا أكثر من 40% حتى منتصف القرن التاسع عشر، أي إلى حين المجازر الشهيرة التي إقترفها العثمانيون بحقهم. كما لم يجبر الأمويون و العباسيون السكان الغير ناطقين بالعربية على التخلي عن لغاتهم الأصلية -اليونانية و الأرامية- و لكن تراجعت هذه اللغات تدريجياً نتيجة إزدياد النفوذ الثقافي و الإقتصادي العربي.

لم يتعرض المسيحيون من كل الطوائف في سوريا إلى أي إضطهاد أو تمييز ديني واضح إلى أن جاء المماليك و من بعدهم العثمانيين. و الحال، إن هذا الإضطهاد كان عاماً على كل السوريين و لكن بالأخص على المجموعات غير السنية كالعلويين و الدوروز و الإسماعليين و اليهود و المسيحيين. هكذا فالإضطهاد و التمييز التي عانت منه الأقليات في هاتين الفترتين لم يكن دينياً أو طائفياً فقط بل كان أولاً عرقياً سياسياً، إذ كان المماليك و العثمانيين من جذور تركية، و ليثبتوا أقدامهم في هذه البلاد و يسيطروا عليها لجؤوا إلى نظام الإقطاع، فوهبوا الأرض لقلة قليلة غالبيتها سنية المعتقد، و بقيت الأكثرية تعمل كالعبيد، هكذا تعرض العرب من أهل السنة للإضطهاد، و لكن كان إضطهاد الأقليات أكثر بكثير، هذا ما أدى بالأقليات للتمرد بين الفينة و الأخرى و تعرضهم بالنتيجة للمذابح.

و أخيراً جاءت الحركات القومية العروبية ذات النزعات الشوفينية، و كانت بمجملها علمانية غير إسلامية. أما من حيث ممارستها السياسية فقد كانت بشكل عام غير صادقة في شعاراتها العروبية، كما أنها عانت من عقدة الإرتياب و الخوف من الآخر. هكذا نظرت بعين الريبة إلى كل ما هو غير عربي، و من بينها الأقليات غير العربية التي سكنت هذه الأرض منذ قديم الزمن، فحاولت قمع هذه الأقليات و إمحاء لغتها و ثقافتها و تراثها، و تعريبها إذا أمكن ، و كان هذا الفصل الأخير من قمع الأقليات العرقية في سوريا.

أنا أوافق صديقي سليمان أن الثقافة الآرامية (السريانية) إندثرت في موطنها الأصلي سوريا، و لكن لعبت عوامل عدة في إندثارها، بعضها كان تطوراً تاريخياً طبيعياً، و بعضها كان إمحاء مقصود، و لكن لم يكن العرب المسلمون الفاعل الأهم لهذا الإمحاء، بل لعب الرومان و من بعدهم المماليك و العثمانيين -و أيضاً الحركات القومية العروبية- الدور الأكبر في هذا القضاء. القضية المهمة الآن دعونا نفكر كيف سنحفظ الباقي من التراث السرياني، و نعيد له مكانته التي يستحق. فهل نريد لهذا الأمر ضمانات دستورية؟ هل نحتاج لمؤسسات مجتمع مدني تعمل إنماء وعي المجتمع بأهمية هذا التراث؟ هل يلزمنا مراكز دراسات مختصة في هذا المجال؟ و أخيراً ما هو دور الآشوريين أنفسهم في هذا الإحياء؟

عجيبة هي المعارضة السورية




عجيبة هي المعارضة السورية في أحوالها، فقصصها لا تشبه إلا قصص الميلودراما في المسلسلات المصرية. فكلما ظننا أن الدم المسفوك على تراب الوطن سيجعلها تنضج و تكبر، إذ تفاجئنا بالعثرات المرة، دافعة إيانا إلى الإحباط و الحزن و الألم و الغثيان. و لم يكن مؤتمر المعارضة في إسطنبول البارحة إلا حلقة من حلقات هذا المسلسل المضني، إذ إن هذا المؤتمر فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق هدفه المرجو -أو بالأحرى المعلن- و الذي هو "توحيد رؤية المعارضة". و الحال، إن هذا الفشل كان مكتوباً عليه من قبل بدء بالمؤتمر و ذلك للأسباب التالية:

أولاً، لم يكن هناك تحضيراً جيداً للمؤتمر. لنجاح أي مؤتمر يجب أن يكون هناك مشاورات مطولة بين الفصائل المشتركة قبل المجئ إلى المؤتمر للتوافق على جدول الأعمال و البيان النهائي. من الواضح أن هذا لم يتم، فالجهة التي بادرت إليه -و هي المجلس الوطني- جهزت جدول الأعمال و البيان الختامي و لم يكن على الحاضرين إلا الإلتزام و التوقيع. و هي لم تتعب نفسها لا بمشاورات و لا بإتصالات، و كأن المدعويين ليسوا شركاء في بناء الوطن، بل مجرد حاشية و مصفقين للزعيم البطل الأوحد.

ثانياً، بينما إعتبر المجلس الوطني نفسه راعياً للمؤتمر، تم توجيه الدعوات إلى أطياف المعارضة الأخرة ليس كفصائل بل كأشخاص، و هذا بحد ذاته نكران -أو بالحد الأدنى تجاهل- لوجود هذه الفصائل. مما يعني أن المجلس الوطني كرّس نفسه حزباً قائداً أوحد جديد، مناقضاً بذلك البيان الختامي للمؤتمر عينه الذي أقر بالتعددية، و هذا مثال فاضح على الفصام بين المبادئ المعلنة و السياسات المطبقة. و الحال، إن توحيد المعارضة المتوخى لم يكن إلا إعلان البيعة للحزب الواحد القائد الجديد و ذلك عبر تمييع فصائل المعارضة الأخرى و تذويبها تدريجياً. و هذا ما يدعوننا إلى الظن أن إعلان البيعة هذا و تذويب الفصائل تلك كانا الهدف الحقيقي -المضمر- من المؤتمر.

ثالثاً، إن الدعوات لحضور المؤتمر جاءت من قبل تركيا و قطر، و لا أعلم ما علاقة تركيا و قطر بالأمور الداخلية للمعارضة السورية! هل أصبحتا الوليتين على شؤون هذه المعارضة و بالتالي الوليتين على شؤون سوريا القادمة؟! و من ولاهما على هذا الأمر؟! هل المجلس الوطني فعل ذلك، أم هما اللتان أقحمتا نفسيهما؟! و الحال، إنه في كلتي الحالتين لا عُذر للمجلس الوطني. ألا يعلم المجلس الوطني أن السوريين سياديون بالطبيعة، و أنهم يعتبرون أن أي تدخل خارجي في شؤونهم جريمة كبرى؟! أظن أن المجلس الوطني أعماه الكبرياء عن رؤوية الكثير من المسلمات، و أنا واثق أنه سيُصعق بكثير من المفاجآت التي يخبأها له الشعب السوري.

رابعاً، كان أحد أهداف المؤتمر إرضاء العالم الخارجي و ذلك عبر إظهار المعارضة موحدة حول رؤية ناصعة لسوريا الجديدة -الشئ الذي طالما طالبت بها السيدة كلينتون. و لكن المؤتمر فشل في تحقيق ذلك، فالرؤية لم تكن ناصعة، إذ إن البيان الختامي أتى إنشائياً يخلو من الخطوات العملية، ثم إنه لم يكن إلا تكراراً للبيانات الختامية لمؤتمرات المعارضة السابقة. و المعارضة ظهرت مشتتة كما لم تبدو من قبل، فكثيرون أعتذروا عن الحضور، و آخرون إنسحبوا و من بينهم المجلس الوطني الكردي. كل هذا ليدل مرة أخرى على عدم فهم أطياف المعارضة السورية -و بالتحديد المجلس الوطني- لحساسيات بعضها البعض و بالأخص لخصوصية القضية الكردية، و ليظهر مرة أخرى أن هناك بوناً شاسعاً بين ما ينادي به و ما يفعله.

لكل هذا جاء مؤتمر إسطنبول الأخير هزيلاً باهتاً، و لهذا لم تطرب له أفئدة السوريين، و لم تهلل له أقلام الإعلاميين، و لا أظنه أقنع اللاعبين العالميين. و ها نحن ننتظر حلقة أخرى من هذا المسلسل المضني.